المحطة الثالثة: دكة القضاء.
ها نحن الان في المكان الذي كان امير المؤمنين (ع) يجلس فيه للقضاء، إنها دَكَّة الْقَضَاءِ.
لقد تساوى هذا المكان الان مع بقية الامكنة ، ولكنه كان فيما مضى بناءً يشبه الحانوت.
وكان يجلس عليها (ع) ليقضي بين الناس ويحكم بينهم بالعدل، وكانت هنالك اسطوانة قصيرة مكتوب عليها الآية الكريمة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ …).
يا له من مكان لا يجلس فيه إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ..
وما أكثر الاشقياء عبر الزمن الذين تبوؤا غيرَ مناصبهم.. ألم يقل الامام الصادق (ع): الْقُضَاةُ أَرْبَعَةٌ، ثَلَاثَةٌ فِي النَّارِ وَ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ.
إنهم:
1- رَجُلٌ قَضَى بِجَوْرٍ وَ هُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ.
2- وَ رَجُلٌ قَضَى بِجَوْرٍ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ.
3- وَ رَجُلٌ قَضَى بِالْحَقِّ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ.
4- وَ رَجُلٌ قَضَى بِالْحَقِّ وَ هُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي الْجَنَّة.
نعم في هذا المكان كان يجلس وصيّ خاتم الانبياء ويقضي بين الناس بحكم الله.
كم هي القضايا التي حَكم بها بأحكام أذهلت العقول.. وكم من الحقوق أرجع.. وكم من النفوس أنقذ.. وكم من الحقائق أظهر..
نكتفي بأن نصلي هنا رَكْعَتَيْنِ تليها تَسْبِيحَة الزَّهْرَاءِ (ع) وَنقرأ الدعاء التالي:
يَا مَالِكِي وَ مُمَلِّكِي وَ مُتَغَمِّدِي بِالنِّعَمِ الْجِسَامِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَجْهِي خَاضِعٌ لِمَا تَعْلُوهُ الْأَقْدَامُ لِجَلَالِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، لَا تَجْعَلْ هَذِهِ الشِّدَّةَ وَ لَا هَذِهِ الْمِحْنَةَ مُتَّصِلَةً بِاسْتِيصَالِ الشَّأْفَةِ، وَ امْنَحْنِي مِنْ فَضْلِكَ مَا لَمْ تَمْنَحْ بِهِ أَحَداً مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
أَنْتَ الْقَدِيمُ الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ تَزَلْ وَ لَا تَزَالُ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ اغْفِرْ لِي وَ ارْحَمْنِي وَ زَكِّ عَمَلِي وَ بَارِكْ لِي فِي أَجَلِي وَ اجْعَلْنِي مِنْ عُتَقَائِكَ وَ طُلَقَائِكَ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.
ولكن قبل أن نغادر الى جهة أخرى سنقف عند محطة ترتبط بهذا المكان، إنه المكان الذي يطلق عليه تسمية بيت الطشت، او بيت الطست.
المحطة الرابعة: بيت الطشت.
هنا في بَيْتِ الطَّشْتِ الْمُتَّصِلِ بِدَكَّةِ الْقَضَاءِ حكاية من حكايا علم أمير المؤمنين (ع) خلدها التاريخ.
بالطبع إن ما وصلنا ما هو إلا نزر يسير وصل إلينا بشق الانفس وسفك المهج.
وهل يقارَن من لديه علم الكتاب بمن لديه علم من الكتاب؟
لئن استطاع الذي عنده علم من الكتاب أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يرتد طرف سليمان.. فما الذي يستطيع الاتيان به من عنده علم الكتاب؟
رُوِيَ أَنَّ تِسْعَةَ إِخْوَةٍ أَوْ عَشَرَةً فِي حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ كَانَتْ لَهُمْ أُخْتٌ وَاحِدَةٌ فَقَالُوا لَهَا كُلَّ مَا يَرْزُقُنَا اللَّهُ نَطْرَحُهُ بَيْنَ يَدَيْكِ فَلَا تَرْغَبِي فِي التَّزْوِيجِ فَحَمِيَّتُنَا لَا تَحْمِلُ ذَلِكِ فَوَافَقَتْهُمْ فِي ذَلِكَ وَ رَضِيَتْ بِهِ وَ قَعَدَتْ فِي خِدْمَتِهِمْ وَ هُمْ يُكْرِمُونَهَا.
فَحَاضَتْ يَوْماً فَلَمَّا طَهُرَتْ أَرَادَتِ الِاغْتِسَالَ وَ خَرَجَتْ إِلَى عَيْنِ مَاءٍ كَانَ بِقُرْبِ حَيِّهِمْ فَخَرَجَتْ مِنَ الْمَاءِ عَلَقَةٌ فَدَخَلَتْ فِي جَوْفِهَا وَ قَدْ جَلَسَتْ فِي الْمَاءِ، فَمَضَتْ عَلَيْهَا الْأَيَّامُ وَ الْعَلَقَةُ تَكْبَرُ حَتَّى عَلَتْ بَطْنُهَا وَ ظَنَّ الْإِخْوَةُ أَنَّهَا حُبْلَى وَ قَدْ خَانَتْ فَأَرَادُوا قَتْلَهَا.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ فَأَخْرَجُوهَا إِلَى حَضْرَتِهِ وَ قَالُوا فِيهَا مَا ظَنُّوا بِهَا فَاسْتَحْضَرَ (ع) طَشْتاً مَمْلُوءاً بِالْحَمْأَةِ ( الطين الاسود المنتن) وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقْعُدَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَحَسَّتِ الْعَلَقَةُ بِرَائِحَةِ الْحَمْأَةِ نَزَلَتْ مِنْ جَوْفِهَا ...
وفي حادثة أخرى رويت عن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَا:
كُنَّا بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَ كَانَ يَوْمُ الْإِثْنَيْنِ لِسَبْعَةَ عَشَرَ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ وَ إِذَا بِزَعْقَةٍ عَظِيمَةٍ أَمْلَأَتِ الْمَسَامِعَ وَ كَانَ عَلَى دَكَّةِ الْقَضَاءِ فَقَالَ: يَا عَمَّارُ ائْتِنِي بِذِي الْفَقَارِ وَ كَانَ وَزْنُهُ سَبْعَةَ أَمْنَانٍ وَ ثُلُثَيْ مَنٍّ مَكِّيٍّ فَجِئْتُ بِهِ فَانْتَضَاهُ مِنْ غِمْدِهِ فَتَرَكَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَ قَالَ:
يَا عَمَّارُ هَذَا يَوْمٌ أَكْشِفُ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ الْغُمَّةَ لِيَزْدَادَ الْمُؤْمِنُ وِفَاقاً وَ الْمُخَالِفُ نِفَاقاً.
يَا عَمَّارُ ائْتِ بِمَنْ عَلَى الْبَابِ.
قَالَ عَمَّارٌ فَخَرَجْتُ وَ إِذَا عَلَى الْبَابِ امْرَأَةٌ فِي قُبَّةٍ عَلَى جَمَلٍ وَ هِيَ تَشْتَكِي وَ تَصِيحُ:
يَا غِيَاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ وَ يَا بُغْيَةَ الطَّالِبِينَ وَ يَا كَنْزَ الرَّاغِبِينَ وَ يَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينِ وَ يَا مُطْعِمَ الْيَتِيمِ وَ يَا رَازِقَ الْعَدِيمِ وَ يَا مُحْيِيَ كُلِّ عَظْمٍ رَمِيمٍ وَ يَا قَدِيمُ سَبَقَ قِدَمُهُ كُلَّ قَدِيمٍ وَ يَا عَوْنَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَوْنٌ وَ لَا مُعِينٌ يَا طَوْدَ مَنْ لَا طَوْدَ لَهُ يَا كَنْزَ مَنْ لَا كَنْزَ لَهُ.
إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ وَ بِوَلِيِّكَ تَوَسَّلْتُ وَ خَلِيفَةَ رَسُولِكَ قَصَدْتُ فَبَيِّضْ وَجْهِي وَ فَرِّجْ عَنِّي كُرْبَتِي.
قَالَ عَمَّارٌ وَ حَوْلَهَا أَلْفُ فَارِسٍ بِسُيُوفٍ مَسْلُولَةٍ قَوْمٌ لَهَا وَ قَوْمٌ عَلَيْهَا.
فَقُلْتُ أَجِيبُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَجِيبُوا عَيْبَةَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ.
قَالَ فَنَزَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْقُبَّةِ وَ نَزَلَ الْقَوْمُ مَعَهَا وَ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ فَوَقَفَتِ الْمَرْأَةُ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَ قَالَتْ:
يَا مَوْلَايَ يَا إِمَامَ الْمُتَّقِينَ إِلَيْكَ أَتَيْتُ وَ إِيَّاكَ قَصَدْتُ فَاكْشِفْ كُرْبَتِي وَ مَا بِي مِنْ غَمَّةٍ فَإِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَ مَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ يَا عَمَّارُ نَادِ فِي الْكُوفَةِ:
مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ أَخَا رَسُولِ اللَّهِ فَلْيَأْتِ الْمَسْجِدَ قَالَ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ فَقَامَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَ قَالَ:
سَلُونِي مَا بَدَا لَكُمْ يَا أَهْلَ الشَّامِ فَنَهَضَ مِنْ بَيْنِهِمْ شَيْخٌ قَدْ شَابَ عَلَيْهِ بُرْدَةٌ يَمَانِيَّةٌ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَ يَا كَنْزَ الطَّالِبِينَ يَا مَوْلَايَ هَذِهِ الْجَارِيَةُ ابْنَتِي قَدْ خَطَبَهَا مُلُوكُ الْعَرَبِ وَ قَدْ نَكَسَتْ رَأْسِي بَيْنَ عَشِيرَتِي وَ أَنَا مَوْصُوفٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَ قَدْ فَضَحَتْنِي فِي أَهْلِي وَ رِجَالِي لِأَنَّهَا عَاتِقٌ حَامِلٌ وَ أَنَا فَلِيسُ بْنُ عِفْرِيسٍ لَا تُخْمَدُ لِي نَارٌ وَ لَا يُضَامُ لِي جَارٌ وَ قَدْ بَقِيتُ حَائِراً فِي أَمْرِي فَاكْشِفْ لِي هَذِهِ الْغُمَّةَ فَإِنَّ الْإِمَامَ خَبِيرٌ بِالْأَمْرِ فَهَذِهِ غُمَّةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا وَ لَا أَعْظَمَ مِنْهَا.
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) مَا تَقُولِينَ يَا جَارِيَةُ فِيمَا قَالَ أَبُوكَ؟
قَالَتْ يَا مَوْلَايَ أَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي عَاتِقٌ صَدَقَ، وَ أَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي حَامِلٌ فَوَ حَقِّكَ يَا مَوْلَايَ مَا عَلِمْتُ مِنْ نَفْسِي خِيَانَةً قَطُّ وَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ أَعْلَمُ بِي مِنِّي وَ إِنِّي مَا كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ فَفَرِّجْ عَنِّي يَا مَوْلَايَ.
قَالَ عَمَّارٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْإِمَامُ ذَا الْفَقَارِ وَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.
ثُمَّ قَالَ (ع) عَلَيَّ بِدَايَةِ الْكُوفَةِ فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ تُسَمَّى لَبْنَاءَ وَ هِيَ قَابِلَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ لَهَا اضْرِبِي بَيْنَكِ وَ بَيْنَ النَّاسِ حِجَاباً وَ انْظُرِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَاتِقٌ حَامِلٌ أَمْ لَا؟
فَفَعَلَتْ مَا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ وَ قَالَتْ نَعَمْ يَا مَوْلَايَ هِيَ عَاتِقٌ حَامِلٌ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ الْتَفَتَ الْإِمَامُ إِلَى أَبِي الْجَارِيَةِ وَ قَالَ يَا أَبَا الْغَضَبِ أَ لَسْتَ مِنْ قَرْيَةِ كَذَا وَ كَذَا مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ قَالَ وَ مَا هَذِهِ الْقَرْيَةُ قَالَ هِيَ قَرْيَةٌ تُسَمَّى أَسْعَارَ قَالَ بَلَى يَا مَوْلَايَ قَالَ وَ مَنْ مِنْكُمْ يَقْدِرُ عَلَى قِطْعَةِ ثَلْجٍ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ قَالَ يَا مَوْلَايَ الثَّلْجُ فِي بِلَادِنَا كَثِيرٌ وَ لَكِنْ مَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ هَاهُنَا فَقَالَ (ع) بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ مِائَتَانِ وَ خَمْسُونَ فَرْسَخاً قَالَ نَعَمْ يَا مَوْلَايَ.
ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَلِيّاً مِنَ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ وَ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنَ الْعِلْمِ الرَّبَّانِيِّ قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَمَدَّ يَدَهُ (ع) مِنْ أَعْلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ وَ رَدَّهَا وَ إِذَا فِيهَا قِطْعَةٌ مِنَ الثَّلْجِ يَقْطُرُ الْمَاءُ مِنْهَا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ ضَجَّ النَّاسُ وَ مَاجَ الْجَامِعُ بِأَهْلِهِ فَقَالَ (ع) اسْكُتُوا فَلَوْ شِئْتُ أَتَيْتُ بِجِبَالِهَا.
ثُمَّ قَالَ يَا دَايَةُ خُذِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مِنَ الثَّلْجِ وَ اخْرُجِي بِالْجَارِيَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَ اتْرُكِي تَحْتَهَا طَشْتاً وَ ضَعِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مِمَّا يَلِي الْفَرْجَ فَسَتَرَى عَلَقَةً وَزْنُهَا سَبْعُمِائَةٍ وَ خَمْسُونَ دِرْهَماً وَ دَانِقَانِ فَقَالَتْ سَمْعاً وَ طَاعَةً لِلَّهِ وَ لَكَ يَا مَوْلَايَ ثُمَّ أَخَذَتْهَا وَ خَرَجَتْ بِهَا مِنَ الْجَامِعِ فَجَاءَتْ بِطَسْتٍ فَوَضَعَتِ الثَّلْجَ عَلَى الْمَوْضِعِ كَمَا أَمَرَهَا (ع) فَرَمَتْ عَلَقَةً وَزَنَتْهَا الدَّايَةُ فَوَجَدَتْهَا كَمَا قَالَ (ع) فَأَقْبَلَتِ الدَّايَةُ وَ الْجَارِيَةُ فَوَضَعَتِ الْعَلَقَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا الْغَضَبِ خُذِ ابْنَتَكَ فَوَ اللَّهِ مَا زَنَتْ وَ إِنَّمَا دَخَلَتِ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ فَدَخَلَتْ هَذِهِ الْعَلَقَةُ فِي جَوْفِهَا وَ هِيَ بِنْتُ عَشْرِ سِنِينَ وَ كَبِرَتْ إِلَى الْآنِ فِي بَطْنِهَا.
فَنَهَضَ أَبُوهَا وَ هُوَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ تَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَ مَا فِي الضَّمَائِرِ وَ أَنْتَ بَابُ الدِّينِ وَ عَمُودُهُ...
لقد أنقذ أمير المؤمنين (ع) الفتاة الاولى مما ظنه بها أخوتها، وأعاد لها كرامتها المهددة.. وأنقذ الثانية مما ظنه بها أبوها..
فكم كان من الممكن أن يُنقذ من هذه الامة لو انقادت له؟
وكم ضاعت لهذه الامة من كرامات بعد ان ضيَّعت قيادها..
سنُصَلِّي هُنَا رَكْعَتَيْنِ وبعد التسبيح سندعوا بالدعاء التالي:
اللَّهُمَّ إِنِّي ذَخَرْتُ تَوْحِيدِي إِيَّاكَ وَ مَعْرِفَتِي بِكَ وَ إِخْلَاصِي لَكَ وَ إِقْرَارِي بِرُبُوبِيَّتِكَ وَ ذَخَرْتُ وَلَايَةَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِمَعْرِفَتِهِمْ مِنْ بَرِيَّتِكَ مُحَمَّدٍ وَ عِتْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيَوْمِ فَزَعِي إِلَيْكَ عَاجِلًا وَ آجِلًا .
وَ قَدْ فَزِعْتُ إِلَيْكَ وَ إِلَيْهِمْ يَا مَوْلَايَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَ فِي مَوْقِفِي هَذَا وَ سَأَلْتُكَ مَا زُكِّيَ مِنْ نِعْمَتِكَ وَ إِزَاحَةَ مَا أَخْشَاهُ مِنْ نَقِمَتِكَ وَ الْبَرَكَةَ فِيمَا رَزَقْتَنِيهِ وَ تَحْصِينَ صَدْرِي مِنْ كُلِّ هَمٍّ وَ جَائِحَةٍ وَ مَعْصِيَةٍ فِي دِينِي وَ دُنْيَايَ وَ آخِرَتِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وللحديث عن مسجد الكوفة تتمة.
ها نحن الان في المكان الذي كان امير المؤمنين (ع) يجلس فيه للقضاء، إنها دَكَّة الْقَضَاءِ.
لقد تساوى هذا المكان الان مع بقية الامكنة ، ولكنه كان فيما مضى بناءً يشبه الحانوت.
وكان يجلس عليها (ع) ليقضي بين الناس ويحكم بينهم بالعدل، وكانت هنالك اسطوانة قصيرة مكتوب عليها الآية الكريمة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ …).
يا له من مكان لا يجلس فيه إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ..
وما أكثر الاشقياء عبر الزمن الذين تبوؤا غيرَ مناصبهم.. ألم يقل الامام الصادق (ع): الْقُضَاةُ أَرْبَعَةٌ، ثَلَاثَةٌ فِي النَّارِ وَ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ.
إنهم:
1- رَجُلٌ قَضَى بِجَوْرٍ وَ هُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ.
2- وَ رَجُلٌ قَضَى بِجَوْرٍ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ.
3- وَ رَجُلٌ قَضَى بِالْحَقِّ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ.
4- وَ رَجُلٌ قَضَى بِالْحَقِّ وَ هُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي الْجَنَّة.
نعم في هذا المكان كان يجلس وصيّ خاتم الانبياء ويقضي بين الناس بحكم الله.
كم هي القضايا التي حَكم بها بأحكام أذهلت العقول.. وكم من الحقوق أرجع.. وكم من النفوس أنقذ.. وكم من الحقائق أظهر..
نكتفي بأن نصلي هنا رَكْعَتَيْنِ تليها تَسْبِيحَة الزَّهْرَاءِ (ع) وَنقرأ الدعاء التالي:
يَا مَالِكِي وَ مُمَلِّكِي وَ مُتَغَمِّدِي بِالنِّعَمِ الْجِسَامِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَجْهِي خَاضِعٌ لِمَا تَعْلُوهُ الْأَقْدَامُ لِجَلَالِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، لَا تَجْعَلْ هَذِهِ الشِّدَّةَ وَ لَا هَذِهِ الْمِحْنَةَ مُتَّصِلَةً بِاسْتِيصَالِ الشَّأْفَةِ، وَ امْنَحْنِي مِنْ فَضْلِكَ مَا لَمْ تَمْنَحْ بِهِ أَحَداً مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
أَنْتَ الْقَدِيمُ الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ تَزَلْ وَ لَا تَزَالُ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ اغْفِرْ لِي وَ ارْحَمْنِي وَ زَكِّ عَمَلِي وَ بَارِكْ لِي فِي أَجَلِي وَ اجْعَلْنِي مِنْ عُتَقَائِكَ وَ طُلَقَائِكَ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.
ولكن قبل أن نغادر الى جهة أخرى سنقف عند محطة ترتبط بهذا المكان، إنه المكان الذي يطلق عليه تسمية بيت الطشت، او بيت الطست.
المحطة الرابعة: بيت الطشت.
هنا في بَيْتِ الطَّشْتِ الْمُتَّصِلِ بِدَكَّةِ الْقَضَاءِ حكاية من حكايا علم أمير المؤمنين (ع) خلدها التاريخ.
بالطبع إن ما وصلنا ما هو إلا نزر يسير وصل إلينا بشق الانفس وسفك المهج.
وهل يقارَن من لديه علم الكتاب بمن لديه علم من الكتاب؟
لئن استطاع الذي عنده علم من الكتاب أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يرتد طرف سليمان.. فما الذي يستطيع الاتيان به من عنده علم الكتاب؟
رُوِيَ أَنَّ تِسْعَةَ إِخْوَةٍ أَوْ عَشَرَةً فِي حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ كَانَتْ لَهُمْ أُخْتٌ وَاحِدَةٌ فَقَالُوا لَهَا كُلَّ مَا يَرْزُقُنَا اللَّهُ نَطْرَحُهُ بَيْنَ يَدَيْكِ فَلَا تَرْغَبِي فِي التَّزْوِيجِ فَحَمِيَّتُنَا لَا تَحْمِلُ ذَلِكِ فَوَافَقَتْهُمْ فِي ذَلِكَ وَ رَضِيَتْ بِهِ وَ قَعَدَتْ فِي خِدْمَتِهِمْ وَ هُمْ يُكْرِمُونَهَا.
فَحَاضَتْ يَوْماً فَلَمَّا طَهُرَتْ أَرَادَتِ الِاغْتِسَالَ وَ خَرَجَتْ إِلَى عَيْنِ مَاءٍ كَانَ بِقُرْبِ حَيِّهِمْ فَخَرَجَتْ مِنَ الْمَاءِ عَلَقَةٌ فَدَخَلَتْ فِي جَوْفِهَا وَ قَدْ جَلَسَتْ فِي الْمَاءِ، فَمَضَتْ عَلَيْهَا الْأَيَّامُ وَ الْعَلَقَةُ تَكْبَرُ حَتَّى عَلَتْ بَطْنُهَا وَ ظَنَّ الْإِخْوَةُ أَنَّهَا حُبْلَى وَ قَدْ خَانَتْ فَأَرَادُوا قَتْلَهَا.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ فَأَخْرَجُوهَا إِلَى حَضْرَتِهِ وَ قَالُوا فِيهَا مَا ظَنُّوا بِهَا فَاسْتَحْضَرَ (ع) طَشْتاً مَمْلُوءاً بِالْحَمْأَةِ ( الطين الاسود المنتن) وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقْعُدَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَحَسَّتِ الْعَلَقَةُ بِرَائِحَةِ الْحَمْأَةِ نَزَلَتْ مِنْ جَوْفِهَا ...
وفي حادثة أخرى رويت عن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَا:
كُنَّا بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَ كَانَ يَوْمُ الْإِثْنَيْنِ لِسَبْعَةَ عَشَرَ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ وَ إِذَا بِزَعْقَةٍ عَظِيمَةٍ أَمْلَأَتِ الْمَسَامِعَ وَ كَانَ عَلَى دَكَّةِ الْقَضَاءِ فَقَالَ: يَا عَمَّارُ ائْتِنِي بِذِي الْفَقَارِ وَ كَانَ وَزْنُهُ سَبْعَةَ أَمْنَانٍ وَ ثُلُثَيْ مَنٍّ مَكِّيٍّ فَجِئْتُ بِهِ فَانْتَضَاهُ مِنْ غِمْدِهِ فَتَرَكَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَ قَالَ:
يَا عَمَّارُ هَذَا يَوْمٌ أَكْشِفُ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ الْغُمَّةَ لِيَزْدَادَ الْمُؤْمِنُ وِفَاقاً وَ الْمُخَالِفُ نِفَاقاً.
يَا عَمَّارُ ائْتِ بِمَنْ عَلَى الْبَابِ.
قَالَ عَمَّارٌ فَخَرَجْتُ وَ إِذَا عَلَى الْبَابِ امْرَأَةٌ فِي قُبَّةٍ عَلَى جَمَلٍ وَ هِيَ تَشْتَكِي وَ تَصِيحُ:
يَا غِيَاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ وَ يَا بُغْيَةَ الطَّالِبِينَ وَ يَا كَنْزَ الرَّاغِبِينَ وَ يَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينِ وَ يَا مُطْعِمَ الْيَتِيمِ وَ يَا رَازِقَ الْعَدِيمِ وَ يَا مُحْيِيَ كُلِّ عَظْمٍ رَمِيمٍ وَ يَا قَدِيمُ سَبَقَ قِدَمُهُ كُلَّ قَدِيمٍ وَ يَا عَوْنَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَوْنٌ وَ لَا مُعِينٌ يَا طَوْدَ مَنْ لَا طَوْدَ لَهُ يَا كَنْزَ مَنْ لَا كَنْزَ لَهُ.
إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ وَ بِوَلِيِّكَ تَوَسَّلْتُ وَ خَلِيفَةَ رَسُولِكَ قَصَدْتُ فَبَيِّضْ وَجْهِي وَ فَرِّجْ عَنِّي كُرْبَتِي.
قَالَ عَمَّارٌ وَ حَوْلَهَا أَلْفُ فَارِسٍ بِسُيُوفٍ مَسْلُولَةٍ قَوْمٌ لَهَا وَ قَوْمٌ عَلَيْهَا.
فَقُلْتُ أَجِيبُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَجِيبُوا عَيْبَةَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ.
قَالَ فَنَزَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْقُبَّةِ وَ نَزَلَ الْقَوْمُ مَعَهَا وَ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ فَوَقَفَتِ الْمَرْأَةُ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَ قَالَتْ:
يَا مَوْلَايَ يَا إِمَامَ الْمُتَّقِينَ إِلَيْكَ أَتَيْتُ وَ إِيَّاكَ قَصَدْتُ فَاكْشِفْ كُرْبَتِي وَ مَا بِي مِنْ غَمَّةٍ فَإِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَ مَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ يَا عَمَّارُ نَادِ فِي الْكُوفَةِ:
مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ أَخَا رَسُولِ اللَّهِ فَلْيَأْتِ الْمَسْجِدَ قَالَ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ فَقَامَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَ قَالَ:
سَلُونِي مَا بَدَا لَكُمْ يَا أَهْلَ الشَّامِ فَنَهَضَ مِنْ بَيْنِهِمْ شَيْخٌ قَدْ شَابَ عَلَيْهِ بُرْدَةٌ يَمَانِيَّةٌ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَ يَا كَنْزَ الطَّالِبِينَ يَا مَوْلَايَ هَذِهِ الْجَارِيَةُ ابْنَتِي قَدْ خَطَبَهَا مُلُوكُ الْعَرَبِ وَ قَدْ نَكَسَتْ رَأْسِي بَيْنَ عَشِيرَتِي وَ أَنَا مَوْصُوفٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَ قَدْ فَضَحَتْنِي فِي أَهْلِي وَ رِجَالِي لِأَنَّهَا عَاتِقٌ حَامِلٌ وَ أَنَا فَلِيسُ بْنُ عِفْرِيسٍ لَا تُخْمَدُ لِي نَارٌ وَ لَا يُضَامُ لِي جَارٌ وَ قَدْ بَقِيتُ حَائِراً فِي أَمْرِي فَاكْشِفْ لِي هَذِهِ الْغُمَّةَ فَإِنَّ الْإِمَامَ خَبِيرٌ بِالْأَمْرِ فَهَذِهِ غُمَّةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا وَ لَا أَعْظَمَ مِنْهَا.
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) مَا تَقُولِينَ يَا جَارِيَةُ فِيمَا قَالَ أَبُوكَ؟
قَالَتْ يَا مَوْلَايَ أَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي عَاتِقٌ صَدَقَ، وَ أَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي حَامِلٌ فَوَ حَقِّكَ يَا مَوْلَايَ مَا عَلِمْتُ مِنْ نَفْسِي خِيَانَةً قَطُّ وَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ أَعْلَمُ بِي مِنِّي وَ إِنِّي مَا كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ فَفَرِّجْ عَنِّي يَا مَوْلَايَ.
قَالَ عَمَّارٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْإِمَامُ ذَا الْفَقَارِ وَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.
ثُمَّ قَالَ (ع) عَلَيَّ بِدَايَةِ الْكُوفَةِ فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ تُسَمَّى لَبْنَاءَ وَ هِيَ قَابِلَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ لَهَا اضْرِبِي بَيْنَكِ وَ بَيْنَ النَّاسِ حِجَاباً وَ انْظُرِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَاتِقٌ حَامِلٌ أَمْ لَا؟
فَفَعَلَتْ مَا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ وَ قَالَتْ نَعَمْ يَا مَوْلَايَ هِيَ عَاتِقٌ حَامِلٌ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ الْتَفَتَ الْإِمَامُ إِلَى أَبِي الْجَارِيَةِ وَ قَالَ يَا أَبَا الْغَضَبِ أَ لَسْتَ مِنْ قَرْيَةِ كَذَا وَ كَذَا مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ قَالَ وَ مَا هَذِهِ الْقَرْيَةُ قَالَ هِيَ قَرْيَةٌ تُسَمَّى أَسْعَارَ قَالَ بَلَى يَا مَوْلَايَ قَالَ وَ مَنْ مِنْكُمْ يَقْدِرُ عَلَى قِطْعَةِ ثَلْجٍ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ قَالَ يَا مَوْلَايَ الثَّلْجُ فِي بِلَادِنَا كَثِيرٌ وَ لَكِنْ مَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ هَاهُنَا فَقَالَ (ع) بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ مِائَتَانِ وَ خَمْسُونَ فَرْسَخاً قَالَ نَعَمْ يَا مَوْلَايَ.
ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَلِيّاً مِنَ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ وَ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنَ الْعِلْمِ الرَّبَّانِيِّ قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَمَدَّ يَدَهُ (ع) مِنْ أَعْلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ وَ رَدَّهَا وَ إِذَا فِيهَا قِطْعَةٌ مِنَ الثَّلْجِ يَقْطُرُ الْمَاءُ مِنْهَا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ ضَجَّ النَّاسُ وَ مَاجَ الْجَامِعُ بِأَهْلِهِ فَقَالَ (ع) اسْكُتُوا فَلَوْ شِئْتُ أَتَيْتُ بِجِبَالِهَا.
ثُمَّ قَالَ يَا دَايَةُ خُذِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مِنَ الثَّلْجِ وَ اخْرُجِي بِالْجَارِيَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَ اتْرُكِي تَحْتَهَا طَشْتاً وَ ضَعِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مِمَّا يَلِي الْفَرْجَ فَسَتَرَى عَلَقَةً وَزْنُهَا سَبْعُمِائَةٍ وَ خَمْسُونَ دِرْهَماً وَ دَانِقَانِ فَقَالَتْ سَمْعاً وَ طَاعَةً لِلَّهِ وَ لَكَ يَا مَوْلَايَ ثُمَّ أَخَذَتْهَا وَ خَرَجَتْ بِهَا مِنَ الْجَامِعِ فَجَاءَتْ بِطَسْتٍ فَوَضَعَتِ الثَّلْجَ عَلَى الْمَوْضِعِ كَمَا أَمَرَهَا (ع) فَرَمَتْ عَلَقَةً وَزَنَتْهَا الدَّايَةُ فَوَجَدَتْهَا كَمَا قَالَ (ع) فَأَقْبَلَتِ الدَّايَةُ وَ الْجَارِيَةُ فَوَضَعَتِ الْعَلَقَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا الْغَضَبِ خُذِ ابْنَتَكَ فَوَ اللَّهِ مَا زَنَتْ وَ إِنَّمَا دَخَلَتِ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ فَدَخَلَتْ هَذِهِ الْعَلَقَةُ فِي جَوْفِهَا وَ هِيَ بِنْتُ عَشْرِ سِنِينَ وَ كَبِرَتْ إِلَى الْآنِ فِي بَطْنِهَا.
فَنَهَضَ أَبُوهَا وَ هُوَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ تَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَ مَا فِي الضَّمَائِرِ وَ أَنْتَ بَابُ الدِّينِ وَ عَمُودُهُ...
لقد أنقذ أمير المؤمنين (ع) الفتاة الاولى مما ظنه بها أخوتها، وأعاد لها كرامتها المهددة.. وأنقذ الثانية مما ظنه بها أبوها..
فكم كان من الممكن أن يُنقذ من هذه الامة لو انقادت له؟
وكم ضاعت لهذه الامة من كرامات بعد ان ضيَّعت قيادها..
سنُصَلِّي هُنَا رَكْعَتَيْنِ وبعد التسبيح سندعوا بالدعاء التالي:
اللَّهُمَّ إِنِّي ذَخَرْتُ تَوْحِيدِي إِيَّاكَ وَ مَعْرِفَتِي بِكَ وَ إِخْلَاصِي لَكَ وَ إِقْرَارِي بِرُبُوبِيَّتِكَ وَ ذَخَرْتُ وَلَايَةَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِمَعْرِفَتِهِمْ مِنْ بَرِيَّتِكَ مُحَمَّدٍ وَ عِتْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيَوْمِ فَزَعِي إِلَيْكَ عَاجِلًا وَ آجِلًا .
وَ قَدْ فَزِعْتُ إِلَيْكَ وَ إِلَيْهِمْ يَا مَوْلَايَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَ فِي مَوْقِفِي هَذَا وَ سَأَلْتُكَ مَا زُكِّيَ مِنْ نِعْمَتِكَ وَ إِزَاحَةَ مَا أَخْشَاهُ مِنْ نَقِمَتِكَ وَ الْبَرَكَةَ فِيمَا رَزَقْتَنِيهِ وَ تَحْصِينَ صَدْرِي مِنْ كُلِّ هَمٍّ وَ جَائِحَةٍ وَ مَعْصِيَةٍ فِي دِينِي وَ دُنْيَايَ وَ آخِرَتِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وللحديث عن مسجد الكوفة تتمة.