الحلقة الثالثة: ودخلت العراق من جديد
ها أنذا في مطار النجف الاشرف.. هل ذا حقيقة أم حلم؟
قف أيها الزمن مكانك، وعد بي الى الوراء .. الى عقود تطاول بها العمر..
عد أيها الزمن سنينا وقف بخشوع واعتبر..
عندما توقف الزمن عند أهل الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا.. وعادوا الى الحياة ، ليروا حياة أخرى ، لم يصدقوا انفسهم هل أنهم كانوا في حلم ام في خيال..
لم يستطيعوا تحمل تلك المفارقة فاختاروا المفارقة..
أما أنا فلم أنم كأهل الكهف، لا زلت حياً منذ عقود ، لكنني صرت شاهدا على سرعة الزمن.
أهبط من الطائرة ، أصل الى الصالة المخصصة، عليَّ أن أحصل على الفيزا قبل تجاوز نقطة ختم الجوازات..
هذا ضابط الجوازات .. يوجّه العناصر الجديدة معه على كيفية انجاز المعاملات..
عندما أقول له إن لديّ موافقة مسبقة وان بقية الاسماء ستصل من بيروت، يجيبني ، لستم الان بحاجة الى أية موافقة مسبقة، أهلا بكم .. أنتم زوار الحسين..
تحصلون على تأشيرة الدخول مباشرة بموافقة خاصة من اللواء..
بكل مودة وحنان يخاطبون الزوار القادمين مقدمين لهم كل ما يلزم من تسهيلات وارشادات..
هل هؤلاء هم ضباط الامن في العراق؟ شيء لا يصدق..
يا الهي أين أنا!! وماذا أرى!!
يقف الضابط ليقدم لي كرسيه كي أجلس عليها.. فيما ينشغل آخرون بإنجاز التأشيرة..
أهكذا غدت أخلاق رجال الامن في العراق!
ترقرقت في عيني دمعة.. بعد أن عدت احدى وثلاثين سنة الى الوراء.. الى يوم لا ينسى من حياتي..
كثيرة هي أيامي التي لا تنسى، ولكن لهذا اليوم طابع خاص له الاثر الكبير على استمرار حياتي..
كأني ولدت في ذاك اليوم من جديد .. إنه فجر الاول من كانون الثاني من عام 1978 م ، صبيحة اليوم الذي توفي فيه أمير دولة الكويت الراحل الشيخ صباح السالم الصباح.
عادت بي الذاكرة الى تلك الليلة عند المعبر الحدودي للعراق ( الرطبة).. وكيف شاهدت اسمي ضمن دفتر المطلوبين.. وقرأت الفاتحة .. وكيف نجوت..
وهل يسلم في ذاك الزمان أحد؟
في تلك الليلة الباردة وفي ذاك المكان القارص كنت آت من الاردن الى العراق و قد أحضرت معي في حقيبة نسخاً من الكتاب الذي كنت قد طبعته في لبنان عن مرقد أمير المؤمنين عليه السلام..
إنه كتاب: لمحة تاريخية عن مرقد أمير المؤمنين(ع)
تم إنزال كل الاغراض من السيارة والمفتش لا يترك شيئا بدون تفتيش دقيق ، حتى أنه راح يخرج من حقيبتي الثانية والتي فيها ملابسي البنطلون ويفتشه ..
أسندت كتفي الى جدار في ذاك الليل البارد وأنا أفكر في اجوبة ما يمكن ان يطرح علي من أسئلة.. ألسنا في نظام بوليسي بامتياز؟
لم يكن العربي في ذاك الوقت بحاجة الى تأشيرة دخول الى العراق، وكانت الاجوبة المعدة عندي أني مقصدي من السفر هو الكويت وليس العراق، وجوابي سيكون عن الكتب انها مرسلة معي أيضا، ولكن بماذا سأجيب فيما لو قرأوا اسمي على الكتاب، وسألوني عن علاقتي بمؤلف الكتاب..
بالطبع لم أكن أعرف يومها أنه كان مسجونا قبل أن يستشهد فيما بعد..
كان مظفر النواب قد اشتهر في تلك الفترة بقصيدته المشهورة التي يخاطب فيها الحكام العرب بعنوان : القدس عروس عروبتكم..
ويسترسل في قصيدته واصفا واقع الانظمة البوليسية في عالمنا العربي قائلا:
ومجرد مكتوب من أمي يتأخر في أروقة الدولة شهرين قمريين..
كانت تلك الخواطر تدور في رأسي وانا أنظر الى التفتيش الدقيق، وعيني على الحقيبة التي تحتوي على الكتب..
وشاهدت ما لم يكن بالحسبان، لقد أنهى التفتيش دون ان يمس تلك الحقيبة وكأن ستارا ضرب بينه وبينها.. او قل: شاهت الوجوه..
فسِّر ذلك بما تشاء وكيف تشاء، فما يهمني هو أن أقول:
شكرا لك يا رب.. لك تجاوزت الموقف الحرج..
ولكن لم ينته الامر عند هذا الحد.. فهناك قسم الامن الذي يأخذ الجوازات من السائق ويدقق بها فيختار الاسماء التي يرغب بالتحقيق معها قبل ان تعاد الجوازات الى اصحابها وقبل ان يتم ختم الدخول..
لم يقع اختيارهم من بين ركاب السيارة الا على اسمي..ربما لأنني الشاب الوحيد بينهم.. وإذ بي أسمع النداء على اسمي من غرفة الامن.
شاب ذو لحية طويلة نسبيا ارتدي بنطلون جينز، وكلها علامات فارقة في عراق ذاك الزمن..
أدخل الى الغرفة التي تشبه غرفة مأمور النفوس عندنا، فكلها دفاتر كبيرة باسماء المطلوبين مرتبة حسب الاحرف الابجدية..
كان في الغرفة اثنان، كل منهما يجلس على طاولة في قبال الاخر وامامه دفتر كبير يقلب صفحاته..
جواز سفري كان بيد المقابل لي، ووقوفي كان على يمين الثاني الذي فتح من الدفتر صفحة كل اسماءها تبدأ باسم مصطفى..
وسرعان ما وقع نظري من طرف عيني على اسمي الكامل في السطر الثالث ما قبل الاخير من الصفحة اليمنى..
كان الضابط لا يزال يقرأ في بداية الصفحة، أما أنا فقد بدأت أقرأ الفاتحة بصمت وأتشهد الشهادتين..
ماذا يعني أن تكون مطلوباً على الحدود ولجهاز الامن في العراق في ذاك الزمن؟
لا أدر كم كانت طويلة تلك اللحظات.. عندما قطع جدارَ الصمت صوتُ الضابط الاخر الذي كان يقلب جواز سفري بيديه قائلا وباللهجة العراقية: (طيِّحْ حظهم اللبنانيين ، ما يكتبون اسم الام على الجواز).
ويومها لم يكن يكتب اسم الام على الجواز اللبناني.
في تلك اللحظة ومن غير قصد ولا تفكير صدرت مني صرخة قوية وبنبرة عالية وباللهجة العراقية (شِتقول؟!) - أي ماذا تقول؟ -
شعرت بعدها بندم، ولكن ليس هناك شيء آسف عليه، فاسمي في لائحة المطلوبين، ولا أدر أي مصير مظلم سينتظرني على أيدي هؤلاء الجلاوزة.
ساد بعد كلمتي سكون عميق، ربما يكون طويلا بلحاظ حالة الترقب.. ورحت أنظر الى الضابطين الذين راح أحدهما يتأمل الاخر وينظران الي، يتفحصاني بأعينهما من رأسي الى أخمص قدمي..
لا أدر ما هي الافكار التي دارت برأسيهما في تلك اللحظة..
بالطبع كان الضابط الذي يقرأ الاسماء قد توقف عن ذلك قبل الوصول الى اسمي، ولم يقطع ذاك الصمت سوى كلمة وبنبرة عالية من الضابط الاخر وكأنه يرد على صرختي قائلا: (اطلع برّا)..
اطبق الجواز ورماه على الشباك وأغلق الثاني الدفتر وخرجت متناولا جواز سفري ومنهياً اجراءات الدخول الى العراق..
أتذكر هذا المشهد وأنا جالس على الكرسي والضابط ينهي لي معاملة التأشيرة، ويناولني جواز سفري بكل احترام.
هي المرة الاولى التي أدخل فيها العراق بتأشيرة بعد تلك الرحلة.
كم هو الفرق بين الامس واليوم.. أمسي كان قبل 31 سنة .. ويومي الان في النجف الاشرف، لقد دخلت النجف الاشرف، قاصدا الحسين..
السلام عليكم يا أبا الحسن.. شوقي اليك كبير.. ولكني في طريقي الى ابنك الحسين..
وللحديث تتمة..