بسم الله الرحمن الرحيم
{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها مَن
يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا
تعلمون}.
هذه الآية، والآيات التي تأتي بعد هذه الآية، قصة خلق الإنسان على
الأرض. فهذه الآيات ليست أسطورة. فالقرآن الكريم كتاب لا يأتيه الباطل من بين
يديه، ولا من خلفه، وليس أيضاً، أحداثاً تاريخية متعددة. ولكنها حسب فهمي،
قصة حياة الإنسان، كل إنسان على وجه الأرض.
فالآيات تؤكد أنّ الله (سبحانه وتعالى)، أراد أن يجعل في الأرض خليفة.
والأرض، كلمة تقابل السماء، فليس المقصود منها الكرة الأرضية، بل يشمل مفهوم
الكلمة، الأرض، والنجوم، والآفاق، ومختلف الأماكن المادية والأبعاد المادية
للإنسان. فالله أراد أن يجعل في عالم المادة، خليفة.
مَن هو الخليفة؟
أمين سر الإنسان، ليس خليفته. والآلات التي يستعملها الإنسان في ممارسة
أشغاله، ليست خلفاء للإنسان. بل خليفة الإنسان هو وكيل الإنسان، الذي ينفّذ
المبادئ العامة، ويتصرف بمقتضى فهمه ووعيه وعلى مسؤوليته. فالله حينما يريد
أن يجعل في الأرض خليفة، لا شك أنّ الخليفة يجب أن يكون مسؤولاً، واعياً،
يتصرف، وينفّذ أهداف الله (سبحانه وتعالى)، بوعي منه وعلى مسؤوليته. والذي
يمارس هذا العمل ليس آلة، أو كالآلة.
فالملائكة، حسب ما نفهم من الآيات القرآنية، والتراث الديني، هم أشبه
شيء بوسائل تنفيذ الإرادة الإلهية. فهم لا يعصون الله. ولكن، ليسوا هم خلفاء
الله على الأرض.
فالخليفة هو الذي يتحمل المسؤولية، ويتصرف بوعي. وهذا يعني أنّ الإنسان
يتمكن من ممارسة الخير والشر، وأن يختار الخير على مسؤوليته، ويختار الشر على
مسؤوليته. فمعنى كون الإنسان، خليفة الله، أنه مخيّر بين الخير والشر، وليس
مسيّراً. ولكن الله هداه النجدين وحمّله المسؤولية. وحينما سمع الملائكة، أنّ
الله يختار خليفة في الأرض، مخيّراً بين الخير والشر، يشعر بالخير والشر،
ويتمكن من ممارستهما، بطبيعة الحال، عرفوا أنّ الإنسان هذا سيختار الشر فيفسد
في الأرض ويسفك الدماء، كما أنه سيختار الخير، ولذلك قالوا لله (سبحانه
وتعالى): {أتجعل فيها مَن يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس
لك}.
ولكن الله (سبحانه وتعالى) يأبى من تلبية الملائكة، لأنه يريد إنساناً
مسؤولاً، يعيش في مهامه وممارسة أعماله، صراعاً نفسياً يؤدي الى كماله
وانتصاره على عناصر الشر. فالفرد الإنساني الخيّر، وإن كان قليلاً، ولكنه
يعادل الموجودات المادية والموجودات الكثيرة التي لا تتمكن من التصرف
بمسؤولية كلها.
وعند ذلك، حينما اختار الله خليفة في الأرض، أي مخيّراً بين الخير
والشر، علّمه الأسماء. والمقصود بالأسماء هو الأسباب، والوسائل، التي تؤدي
الى نتائج الأمور. ولا شك أنّ الله مكّن الإنسان من السيطرة على الموجودات،
وذلك بتمكينه من التعلّم. فالعلم وسيلة للسيطرة على الموجودات، كل الموجودات.
إنّ الإنسان حينما يجهل شيئاً، يهابه ويعجز عن التصرف فيه، ويقف
خاشعاً، عبداً ذليلاً أمامه. كما كان الإنسان يقف أمام الظواهر الكونية التي
تكشف عن الكهرباء. ولكن، حينما عرف ذلك، أصبح سيّده وسخّره. فقد مكّن الله
الإنسان من أن يعرف كل شيء، فقد مكّنه بالتالي أن يسخّر كل شيء. فإذا قلنا:
إنّ وسيلة سيطرة الإنسان على جميع الموجودات الكونية، هو علمه، وقد جعل الله
في الإنسان مفتاح التعلّم، فبإمكانه أن يتعلم كل شيء، فيسخّر كل شيء.
وكل شيء هذا، نتيجة عمل الملائكة، فإذا تمكن الإنسان من تسخير كل
الموجودات، فقد تمكّن من إخضاع الملائكة، وسجود الملائكة الذي يعني غاية
الخضوع والتواضع. وبالتالي، بإمكاننا أن نفهم أنّ حياة الإنسان على الأرض، هي
عبارة عن خلق موجود يتمكن من ممارسة الخير والشر. يشعر بهما، ويعيش في عالم
يوجد الخير والشر، ووجود هذا الإحساس، ووجود الخير والشر في الخارج، هو كمال
للإنسان، يمكّن الإنسان من أن يعيش صراعاً، فيختار الخير على مسؤوليته. ثم
مكّنه من التعلّم، وبواسطة التعلّم يتمكن من السيطرة على جميع الموجودات.
وعلى هذا، ميزة الإنسان بالإرادة هي التخيير، وبالعلم الذي يجعله
سلطاناً على الموجودات كلها.
هذا الخط هو الخط الحياتي للإنسان. ومفهومه أنّ الإنسان الذي لا يتمكن
من تعلّم شيء، ومن معرفة شيء، هو عاجز أمام الأشياء، كل الأشياء. حتى إذا
تعلّم الأشياء يسخّرها ويسوّدها. ومعنى ذلك، أنّ الإنسان يبدأ من لا شيء،
وينطلق الى ما لا نهاية له.
إنّ مجال تحرك الإنسان، هو جميع الموجودات، وليست الكرة الأرضية فحسب،
ولكن طريق الوصول الى سيطرة الإنسان على جميع الموجودات، هو طريق العلم
والتعلّم. فإذا تعلّم يسيطر. فليس هناك في الكون شيء يكون أرفع من تعلّم
الإنسان فالإنسان يتمكن من معرفة كل شيء.
فالقرآن الكريم بهذه الآيات، يرسم خط التحرك الإنساني، ويؤكد له، بأنك
تتمكن من السيطرة على جميع الموجودات ومن التعرف على مسؤوليتك في جميع
الموجودات. وهذا معنى خلافة الله، الذي يعرض على الإنسان في أول القرآن
الكريم. هذا المفهوم هو المفهوم القريب الى الذهن، والقريب الى المبادئ
العلمية، والمنسجم مع الآيات القرآنية الأخرى التي تشرح دور الملائكة، كالآية
الكريمة التي تسمي الملائكة وتعبّر عنهم بـ"المدبّرات أمراً" وهذا أيضاً،
مفهوم قريب لمعنى سجود الملائكة للإنسان، عرضناه، ولعل في عرضه عرضاً على
مسامع المفكرين للبحث، والتحدث، والحوار فيه.
نسأل الله أن يتقبل، وأن يهدينا حقيقة معرفة كتابه الكريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.