الحلقة السادسة.. كربلاء في يوم الاربعين
نعم أي سر يحمله الحسين..؟
ما أعظم حبكم سادتي، وكيف يجتمع المحبون في جواركم..
لقد قدمت من مدينة قم، و والدي قدم من جنوب لبنان، وأخي وابني ومن معهما قطعوا الطريق مشياً من النجف الى كربلاء ليصلوا في الليل الفائت..
لقد تابعوا سيرهم منذ عصر الجمعة وأكملوا سيرهم حتى لاحت لهم القبة الصفراء في ليلة الاربعين، دموعهم تبلل الخدود..أجسادهم تتمايل من وعثاء الطريق.. بعضهم يستعين بعصا تساعده على إكمال المسير.. مع الملايين الزاحفة وصلوا..
دخلوا الى الحسين من باب العباس.. وهم يهتفون:
السلام عليك يا أبا الفضل العباس.. السلام عليك يا قطيع الكفين..
السلام عليك يا حامل اللواء.. السلام عليك يا ساقي العطاشى..
السلام عليك يا ابن أمير المؤمنين..
لقد ذهبوا الى الحسين.. اليست كل مسيرتهم يحركها عشقهم للحسين.. حبهم للحسين.. لقد وصلوا الى الحسين.. وسلموا على الحسين.. وعلى علي بن الحسين .. وعلى اولاد الحسين .. وعلى اصحاب الحسين.. وقلوبهم وعيونهم وعقولهم قبل لسانهم كلها تصرخ.. حسين .. يا حسين..
وها أنذا اليوم وما أن خرجت برفقة والدي من حرم الامام الحسين بعد أن أدينا صلاة الصبح في الحرم الشريف وإذ بنا نلتقي عند الباب الخارجي بصديق لنا من البحرين جاء أيضا لزيارة الحسين ..
هكذا يجمع الحسين كل المحبين..
لقد مرت بضعة سنوات لم نلتق معا، وها نحن نلتقي عند باب الحسين عليه السلام، أليس حب الحسين هو الذي يجمعنا؟
كانت رغبتنا ان نتجه الى العباس ، لأقول له عذرا سيدي فلم أزرك كما ينبغي في رحلتي هذه.. أنا آت الى الحسين..
توجهنا جميعا نحو العباس، وكان صديقنا يسكن في فندقٍ ما بين الحرمين ، ألح علينا للدخول معه وتناول طعام الفطور..
وكان فطورا لايُنسى.. إنه فطور بين الحرمين، على اليمين منا مقام الحسين عليه السلام ، وعلى اليسار مقام العباس ، نتطلع الى المواكب المتجهة نحو العباس، يلفت نظري موكب يتمايز باللون الابيض.
يلتفت الشيخ عبد الحسين قائلا.. هذا موكب بني عامر..ألا تعرفه؟؟
لم أكن قد سمعت عنه من قبل..إنه موكب خاص لعشيرة بني عامر التي تسكن في منطقة البصرة، موكب عزاءهم يتمايز عن جميع المواكب، فجميعهم يلبس ثوبا أبيضا، ويتكون موكبهم من عشرين مجموعة، ويتراوح عدد كل مجموعة بين سبعماية الى الف شخص،
على ثوب كل شخص منهم رقم المجموعة التي ينتمي اليها، يحيط بكل مجموعة منهم عدد آخر يشكل طوقا كالسوار يتمايز عنهم بكتابة كلمة يا حسين باللون الاخضر، بينما كتبت على باللون الاحمر عند الاخرين .
في مقدمة كل مجموعة منهم بعض مشايخهم من زعماء العشيرة، وبعض رجال الدين، ولكل مجموعة منهم ارجوزة خاصة تلتقي بالخاتمة مع الاخرين..
يا الهي.. كيف تغيرت نواميس الطبيعة في كربلاء..
تلك الرمضاء التي احتوت اجساد الحسين وصحبه منذ قرون غدت اليوم مدينة مكتظة بالسكان والعمران يحج اليها الملايين في هذه الذكرى..
ألسنا نقصد البيت الحرام في شهر ذي الحجة فنحج إليه..
إن كان الحج الى البيت العتيق في أيام معدودة من كل عام.. فالحج الى الحسين في كل الايام.. ولكنه في هذه الايام له نكهة خاصة.. طعم خاص.. معنى خاص..
إنه حج من نوع آخر.. في زمن آخر..
كربلاء في أيام الاربعين تصبح مدينة من عالم آخر..
لن أستطيع وصف حالتها مهما أوتيت من قدرة على البيان.. يعجز الكتّاب والادباء و حتى الاعلاميون الذين ينقلون الصور عبر الاقنية الفضائية في بث مباشر ، وحتى من يسجل التقارير الاعلامية.. كل هؤلاء عاجزون عن نقل الصورة الحقيقية لما تحويه كربلاء في هذه الايام..
ماذا تنقل الكاميرا؟ وماذا يصور لنا الكاتب؟ ليس سوى جوانب يسيرة من وقائع هذا الحج الاكبر في التاريخ الى كربلاء..
ما أن تخرج نحو الشارع وتنظر الى هذه الجموع..من كل الاعمار ومن كل الطبقات، شبانا، شيَّابا، كبارا صغارا، تراهم جميعا يحكون لغة واحدة ، تحركهم مشاعر واحدة.. تستمع الى امرأة عجوز تتكئ على عصاها وهي تسير نحو الحسين وحولها بعض حفدتها تسمعها وكأنها تخاطب شخصا ماثلا أمامها وهي تقول : السلام عليك يا حسين ... السلام عليك يا مظلوم..
أليس الظلم مما تنفر منه طباع البشر؟.. وهل من ظلم أفضع من هذا الظلم على ابن بنت النبي من أمة تدعي الانتماء اليه!!
هل هناك من ظلم يفوق هذا الظلم في بشاعته.. في قساوته..
هل يستطيع أحد أن يحبس دمعته.. ماذا يمكنك ان تحمل من مشاعر عندما تشاهد ذاك الشاب السائر مسافات طويلة برجل واحدة ، يستعمل عصاه بديلا عن رجله المقطوعة.. وهو يقول.. لبيك يا حسين..نأتيك زحفا سيدي يا حسين..
نعم إن نواميس الطبيعة تتغير في كربلاء في هذه الايام..
هل شاهد أحد في الدنيا ما شاهدناه ونشاهده في هذه الايام في كربلاء وفي الطريق اليها من تبدل لقواعد التعامل بين البشر؟
في كل بقاع الدنيا.. وفي كل الازمنة تجد العلاقات بين البشر قائمة على اساس العطاء المتبادل..
إذا أردت طعاماً.. شراباً.. فراشاً.. فلا بد من أن تدفع ما يقابله.. هكذا تنتظم حياة البشر منذ القدم.. تدفع مالا مقابل ما تحصل عليه.. تدفع ثمنا لكل ما ترغب بشراءه..
أما العطاء بلا مال.. بلا ثمن.. فله عناوينه الخاصة..
قد يعطي الغنيُّ الفقيرَ تحسساً منه أو رحمة.. أو رجاء ثواب عاجل أو آجل..
فتنشط الجمعيات.. او المؤسسات الحكومية لتقديم يد العون للمنكوبين ، او المحتاجين..الذين يقفون صفوفا في اغلب الاحيان إن لم يتدافعوا للحصول على فُتات ما يقدمه المحسنون.. يقدمون لهم الشكر.. وعبارات الامتنان.. فيحصل المحسنون على هذا المديح بدل ما ينفقون..
أما في كربلاء.. فالامر مختلف تماماً.. إنه أمر لا يصدق..
ان ترى الالاف المؤلفة في الشوارع.. يصلها كل ما تحتاج اليه وهي صاحبة المنة على من يقدم لها الطعام!!.. على من يقدم لها الشراب!!.. على من يقدم لها المأوى!!.. على من يصلح حذاءها!!.. على من يغسل أقدامها!!..
هل سمع أحد بما نراه ونسمعه في كربلاء وفي الطريق الى كربلاء..
سأحكي بعض مشاهداتي اليومية..
لقد أمضيت خمسة ايام قبل يوم الاربعين، وكنت اذهب في اوقات الصلاة الى حرم الحسين.. صباحا وظهراً ومساء..
وما أن تخطو قدمي الخطوة الاولى خارج الفندق.. حتى يستوقفني شاب يقف على عصاه.. يدعوني لشرب الشاي.. اعتذر منه فأرى في وجهه أسى لأنني لم أستجب لدعوته.. وكيف لي أن استجيب لاكثر من عشرين محطة في طريقي الى الحسين الذي لا يتعدى 200 متر الا قليلا..
فبعد الشاي يستوقفك من يقدم لك طعام الفطور.. وهكذا بعد العودة من الصلاة.. ويتكرر المشهد ظهرا ومساء..
أنواع المأكولات من الارز والقيمة.. من الماش.. من التمر.. من الانواع المختلفة..كلها تملأ الشارع بما يزيد عن حاجة الالاف المؤلفة المتجهة نحو الحرم الحسيني او العائدة منه..
أنت صاحب المنة إن قبلت دعوة أحدهم ..
كم كانت فرحة أحد المواكب كبيرة عندما استجبنا لدعوته شرب الشاي عندهم.. كأنك ملَّكته شيئا كبيرا.. إنه موكب اهالي الكاظمية في ليالي الجمع.. وتدليلا على اعتزازه يقدم لوالدي ولي شارة ذهبية اللون تعلق على الصدر عليها كلمة ( يا حسين)..
في كل بقاع الدنيا.. يقدم الآخذ الشكر من المعطي.. أما في كربلاء.. فإن المعطي هو الذي يتشكر الآخذ..
ألا يعد هذا تغيرا في ناموس الطبيعة الذي يحكم علاقة بين البشر فيما بينهم؟
من الطبيعي أن ترى كميات كبيرة من الطعام لا تجد من يأكلها.. وقد يحرج أحدهم فيتناول صحنا ليأكل منه ملعقة ويتركه جانبا إذ لن يستطيع احد ان يلبي جميع الدعوات..
قال لي وائل.. وربما أنور .. وهما من مشرفي منتديات يا حسين الذين كانا مع أخي وابني في مسيرة المشاة من النجف الى كربلاء.. هل يمكن أن نقول : أن ما نشاهده هو نموذج مصغر عما سيحصل في دولة العدل الالهي عند ظهور الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ؟
قلت وكيف ذلك؟
قال: أليست الروايات تتحدث عن حالة الرخاء التي يعيشها الناس في تلك الايام إذ يقال لكل فرد خذ ما تحتاج اليه.. ولا يبق محتاج في ذاك الزمن..؟
أجبت: نعم هكذا هي حالة تلك الفترة، ولكن ما نراه اليوم يتعدى مسألة الغنى والفقر.. هو عطاء للعطاء .. لا لعنوان الحاجة .. ولا لعنوان الفقر.. بل لعنوان خاص اسمه .. حب الحسين.. ألست أنت زائر الحسين..
إذن خذ وأنت صاحب الفضل..
حكى لي وائل قائلا.. أثناء مسيرنا تورمت قدماي إذ لم أكن قد اعتدت على المسير المتواصل لفترة طويلة .. وتوقفنا عند إحدى المفارز الطبية على الطريق.. وكان الممرض او الطبيب يسحب بواسطة ابرة الماء المنتفخ تحت جلد القدم..
لقد رفضوا اعطاءنا اياه قائلين .. إننا نستعمله دواء للشفاء..
الاطباء يأخذون الماء من الاقدام المتورمة في مشيها لزيارة الحسين ويستعملونه دواء..
من يستطيع فك رموز تلك الاحجية التي لا يعرفها سوى من عشعش في قلوبهم حب الحسين..
حكى لي ابو حذيفة.. وهو صديق عراقي من كربلاء أقام سنيناً في بلدتنا يعمل في مهنته صياغة الذهب قبل ان يعود الى كربلاء قائلا: كانت لدينا رغبة انا وصديقي بأن نعمل على طريق كربلاء مصلحي أحذية للزوار .. فهل تعرف كيف بدأت هذه الخدمة للزوار منذ سنتين؟
أجبته كلا فقال: سأنقل لك شهادة الرادود المعروف " رؤوف عَلْوَش" الذي التقى قبل سنتين بشاب جالس على الطريق الى كربلاء يصلح أحذية الزوار.. قال له.. ما اراك ممن يمتهن هذه المهنة..أجابه : نعم ..ولكني ألزمت نفسي بأن أقوم بهذا العمل في كل عام بسبب ما حدث معي.. وتابع الشاب ساردا قصته للرادود:
كنت مشلولا على عربة ولا استطيع المشي، وقد وضعني اهلي في العربة على طريق المشاة كي اتبرك بغبار زوار الحسين..
وأنا في تلك الحالة كنت ارقب حالة المشاة، وقد لفت نظري ان أحذية بعضهم قد تقطعت وصارت بحاجة الى اصلاح فكان بعضهم يتركها ويسير حافيا لعدم تمكنه من اصلاحها..
قلت في نفسي وانا أشاهد مثل تلك الحالات.. يا ليتني أستطيع خدمة هؤلاء الزوار بإصلاح احذيتهم..
ومر من أمامي الزوار المشاة، وخف عددهم وكان هناك شخص يسير بمفرده آخر المشاة، ولم اعد ار بعده أحد.. وما أن وصل اليّ حتى أعطاني قنينة ماء وقال لي اشربها وتابع سيره..
وبعد ان غاب الجميع شربت الماء وأنا استعد كي ينقلني أهلي ، وإذ بي أشعر انني صرت في حالة اخرى .. لقد شعرت بقوة أذهبت عني ما أنا فيه..
قمت ومشيت .. وعندها التفت الى أنني تمنيت ان أخدم الزوار ، فألزمت نفسي بإصلاح احذيتهم في كل عام..
أليس اليقين الراسخ هو الذي جعل مثل هذا يقوم بمثل هذا العمل؟
أليست الحقيقة المتجسدة أمامهم عشقا للحسين تدفع مثل هؤلاء لخدمة زوار الحسين..
وماذا لو نقلت لكم قصة اخرى حصلت هذا العام؟
التقيت بأحد التجار الكسبة فحكى لي ما حصل معه ومع زوجته هذا العام..
إنه السيد جعفر السيد مجيد السيد نجم العوادي الموسوي..
من اهالي مدينة النجف الاشرف.. يملك بستانا في منطقة ما يسمى خان الربع.. وهي في ربع الطريق من النجف الى كربلاء.. ويبعد بستانه ومنزله عن الشارع العام ما يقرب من خمسة عشر كيلو مترا..
هناك على الشارع حسينية تحمل اسم الامام جعفر الصادق عليه السلام..
وهناك موكب يقدم الخدمة للزائرين المشاة يحمل اسم موكب السادة خدام الحسين..
حكى لي السيد جعفر.. أن زوجته العلوية ( بمصطلح العراقيين يطلق على من تنتسب الى أمير المؤمنين عليه السلام لقب العلوية) رغم ما بها من مرض تصر على المشاركة في خدمة زوار الحسين من خلال عجنها العجين الذي يتم ارساله الى فرن هناك ليخبر ويقدم الخبز الساخن للزوار..
ألحت زوجته كي تأتي معه للقيام بهذه المهمة، وضعت كمية الطحين المطلوبة، والماء الحار اللازم للعجين.. وإذ بها ترى أنه صار عجينا جاهزا دون أن تبذل اي جهد.. بعثته للخباز.. ثم عملت عجنة اخرى، وارسلتها مباشرة .. فتعجب الخباز من السرعة في انجاز العجين .. عندها قالت لهم احضروا أية كمية من الطحين فأنا على استعداد لعجنها بأقصى سرعة..
قد يستغرب البعض مثل هذه القصص والحكايا.. و لكن هل يستطيع احد ان ينكر كل تلك الحقائق التي تشهد بتغير ناموس الطبيعة في العلاقة بين البشر؟
إن كان ناموس الطبيعة يغير سلوك الانسان في علاقاته.. فكيف لا يتغير بامور تكوينية كما حصل مع ابراهيم الخليل؟
سأختم موضوعي الان بما لفت نظري قبيل مغادرتي كربلاء بعد ظهر يوم الاربعين..
كان على بعد عشرة امتار من الفندق الذي اقمت فيه ، سفير كربلاء..وفي الزقاق الموصل الى شارع السدرة حيث انعطف يمينا نحو مقام الحسين عليه السلام.. كان هناك فرن للخبز.. وكانت أكياس الطحين مكدسة عنده.. وكميات الخبز في الصباح والظهر والمساء تنتظر من يشتري ، وكنت أمر من أمام ذاك الفرن ست مرات في كل يوم اثناء ذهابي للحرم الشريف واثناء عودتي، وفي اكثر الاحيان كنت اشاهد شخصا او شخصين قدما الفرن بهدف شراء الخبز المكدس على الطاولة الخارجية..
واستمر هذا المشهد يتكرر امامي خمسة ايام الى ما بعد ظهر يوم الاربعين..
كنت قد صليت الظهر في مقام الحسين وودعته وتوجهت للفندق استعدادا للمغادرة.. وما أن دخلت الزقاق حتى شاهدت ازدحاما غير مألوف في ذاك المكان.. إذ أن أعدادا كبيرة من الناس متوقفة..
لا بد أن أمرا ما قد حدث في هذا الزقاق.. إذ رغم الاعداد الغفيرة المنتشرة في كل مكان لم يكن الزحام ليعيق حركة الناس كما أشاهدها الان هنا..
وكانت المفاجأة .. كل هؤلاء الناس يقفون امام فرن الخبز لشراء حاجتهم..
يا الهي .. ما الذي تغير؟
إن الناس قد بدأت في مغادرة كربلاء.. وكانت الجموع في الصباح وفي مساء امس اكثر بكثير ومع ذلك لم يكن احد ليقف امام الفرن .. فما الذي جرى ؟ وما الذي تغير؟
لقد انتهى وقت الزيارة.. فعادت الناس الى طبيعتها في علاقاتها..
انتهى الوقت الذي كان فيه اصحاب تلك المواكب يقدمون الطعام والشراب للقادمين، لقد انجز هؤلاء مهمتهم وحزموا امتعتهم وهم يهمون بالمغادرة..
فعاد الخباز ليبيع الخبز، والبقال ليبيع انواع الطعام والفاكهة وانتهى الوقت الذي تغيرت فيه نواميس الطبيعة..
هكذا بدت لي كربلاء بعد ظهر الاربعين والناس تودع الحسين الى منازلها.
وللحديث تتمة
نعم أي سر يحمله الحسين..؟
ما أعظم حبكم سادتي، وكيف يجتمع المحبون في جواركم..
لقد قدمت من مدينة قم، و والدي قدم من جنوب لبنان، وأخي وابني ومن معهما قطعوا الطريق مشياً من النجف الى كربلاء ليصلوا في الليل الفائت..
لقد تابعوا سيرهم منذ عصر الجمعة وأكملوا سيرهم حتى لاحت لهم القبة الصفراء في ليلة الاربعين، دموعهم تبلل الخدود..أجسادهم تتمايل من وعثاء الطريق.. بعضهم يستعين بعصا تساعده على إكمال المسير.. مع الملايين الزاحفة وصلوا..
دخلوا الى الحسين من باب العباس.. وهم يهتفون:
السلام عليك يا أبا الفضل العباس.. السلام عليك يا قطيع الكفين..
السلام عليك يا حامل اللواء.. السلام عليك يا ساقي العطاشى..
السلام عليك يا ابن أمير المؤمنين..
لقد ذهبوا الى الحسين.. اليست كل مسيرتهم يحركها عشقهم للحسين.. حبهم للحسين.. لقد وصلوا الى الحسين.. وسلموا على الحسين.. وعلى علي بن الحسين .. وعلى اولاد الحسين .. وعلى اصحاب الحسين.. وقلوبهم وعيونهم وعقولهم قبل لسانهم كلها تصرخ.. حسين .. يا حسين..
وها أنذا اليوم وما أن خرجت برفقة والدي من حرم الامام الحسين بعد أن أدينا صلاة الصبح في الحرم الشريف وإذ بنا نلتقي عند الباب الخارجي بصديق لنا من البحرين جاء أيضا لزيارة الحسين ..
هكذا يجمع الحسين كل المحبين..
لقد مرت بضعة سنوات لم نلتق معا، وها نحن نلتقي عند باب الحسين عليه السلام، أليس حب الحسين هو الذي يجمعنا؟
كانت رغبتنا ان نتجه الى العباس ، لأقول له عذرا سيدي فلم أزرك كما ينبغي في رحلتي هذه.. أنا آت الى الحسين..
توجهنا جميعا نحو العباس، وكان صديقنا يسكن في فندقٍ ما بين الحرمين ، ألح علينا للدخول معه وتناول طعام الفطور..
وكان فطورا لايُنسى.. إنه فطور بين الحرمين، على اليمين منا مقام الحسين عليه السلام ، وعلى اليسار مقام العباس ، نتطلع الى المواكب المتجهة نحو العباس، يلفت نظري موكب يتمايز باللون الابيض.
يلتفت الشيخ عبد الحسين قائلا.. هذا موكب بني عامر..ألا تعرفه؟؟
لم أكن قد سمعت عنه من قبل..إنه موكب خاص لعشيرة بني عامر التي تسكن في منطقة البصرة، موكب عزاءهم يتمايز عن جميع المواكب، فجميعهم يلبس ثوبا أبيضا، ويتكون موكبهم من عشرين مجموعة، ويتراوح عدد كل مجموعة بين سبعماية الى الف شخص،
على ثوب كل شخص منهم رقم المجموعة التي ينتمي اليها، يحيط بكل مجموعة منهم عدد آخر يشكل طوقا كالسوار يتمايز عنهم بكتابة كلمة يا حسين باللون الاخضر، بينما كتبت على باللون الاحمر عند الاخرين .
في مقدمة كل مجموعة منهم بعض مشايخهم من زعماء العشيرة، وبعض رجال الدين، ولكل مجموعة منهم ارجوزة خاصة تلتقي بالخاتمة مع الاخرين..
يا الهي.. كيف تغيرت نواميس الطبيعة في كربلاء..
تلك الرمضاء التي احتوت اجساد الحسين وصحبه منذ قرون غدت اليوم مدينة مكتظة بالسكان والعمران يحج اليها الملايين في هذه الذكرى..
ألسنا نقصد البيت الحرام في شهر ذي الحجة فنحج إليه..
إن كان الحج الى البيت العتيق في أيام معدودة من كل عام.. فالحج الى الحسين في كل الايام.. ولكنه في هذه الايام له نكهة خاصة.. طعم خاص.. معنى خاص..
إنه حج من نوع آخر.. في زمن آخر..
كربلاء في أيام الاربعين تصبح مدينة من عالم آخر..
لن أستطيع وصف حالتها مهما أوتيت من قدرة على البيان.. يعجز الكتّاب والادباء و حتى الاعلاميون الذين ينقلون الصور عبر الاقنية الفضائية في بث مباشر ، وحتى من يسجل التقارير الاعلامية.. كل هؤلاء عاجزون عن نقل الصورة الحقيقية لما تحويه كربلاء في هذه الايام..
ماذا تنقل الكاميرا؟ وماذا يصور لنا الكاتب؟ ليس سوى جوانب يسيرة من وقائع هذا الحج الاكبر في التاريخ الى كربلاء..
ما أن تخرج نحو الشارع وتنظر الى هذه الجموع..من كل الاعمار ومن كل الطبقات، شبانا، شيَّابا، كبارا صغارا، تراهم جميعا يحكون لغة واحدة ، تحركهم مشاعر واحدة.. تستمع الى امرأة عجوز تتكئ على عصاها وهي تسير نحو الحسين وحولها بعض حفدتها تسمعها وكأنها تخاطب شخصا ماثلا أمامها وهي تقول : السلام عليك يا حسين ... السلام عليك يا مظلوم..
أليس الظلم مما تنفر منه طباع البشر؟.. وهل من ظلم أفضع من هذا الظلم على ابن بنت النبي من أمة تدعي الانتماء اليه!!
هل هناك من ظلم يفوق هذا الظلم في بشاعته.. في قساوته..
هل يستطيع أحد أن يحبس دمعته.. ماذا يمكنك ان تحمل من مشاعر عندما تشاهد ذاك الشاب السائر مسافات طويلة برجل واحدة ، يستعمل عصاه بديلا عن رجله المقطوعة.. وهو يقول.. لبيك يا حسين..نأتيك زحفا سيدي يا حسين..
نعم إن نواميس الطبيعة تتغير في كربلاء في هذه الايام..
هل شاهد أحد في الدنيا ما شاهدناه ونشاهده في هذه الايام في كربلاء وفي الطريق اليها من تبدل لقواعد التعامل بين البشر؟
في كل بقاع الدنيا.. وفي كل الازمنة تجد العلاقات بين البشر قائمة على اساس العطاء المتبادل..
إذا أردت طعاماً.. شراباً.. فراشاً.. فلا بد من أن تدفع ما يقابله.. هكذا تنتظم حياة البشر منذ القدم.. تدفع مالا مقابل ما تحصل عليه.. تدفع ثمنا لكل ما ترغب بشراءه..
أما العطاء بلا مال.. بلا ثمن.. فله عناوينه الخاصة..
قد يعطي الغنيُّ الفقيرَ تحسساً منه أو رحمة.. أو رجاء ثواب عاجل أو آجل..
فتنشط الجمعيات.. او المؤسسات الحكومية لتقديم يد العون للمنكوبين ، او المحتاجين..الذين يقفون صفوفا في اغلب الاحيان إن لم يتدافعوا للحصول على فُتات ما يقدمه المحسنون.. يقدمون لهم الشكر.. وعبارات الامتنان.. فيحصل المحسنون على هذا المديح بدل ما ينفقون..
أما في كربلاء.. فالامر مختلف تماماً.. إنه أمر لا يصدق..
ان ترى الالاف المؤلفة في الشوارع.. يصلها كل ما تحتاج اليه وهي صاحبة المنة على من يقدم لها الطعام!!.. على من يقدم لها الشراب!!.. على من يقدم لها المأوى!!.. على من يصلح حذاءها!!.. على من يغسل أقدامها!!..
هل سمع أحد بما نراه ونسمعه في كربلاء وفي الطريق الى كربلاء..
سأحكي بعض مشاهداتي اليومية..
لقد أمضيت خمسة ايام قبل يوم الاربعين، وكنت اذهب في اوقات الصلاة الى حرم الحسين.. صباحا وظهراً ومساء..
وما أن تخطو قدمي الخطوة الاولى خارج الفندق.. حتى يستوقفني شاب يقف على عصاه.. يدعوني لشرب الشاي.. اعتذر منه فأرى في وجهه أسى لأنني لم أستجب لدعوته.. وكيف لي أن استجيب لاكثر من عشرين محطة في طريقي الى الحسين الذي لا يتعدى 200 متر الا قليلا..
فبعد الشاي يستوقفك من يقدم لك طعام الفطور.. وهكذا بعد العودة من الصلاة.. ويتكرر المشهد ظهرا ومساء..
أنواع المأكولات من الارز والقيمة.. من الماش.. من التمر.. من الانواع المختلفة..كلها تملأ الشارع بما يزيد عن حاجة الالاف المؤلفة المتجهة نحو الحرم الحسيني او العائدة منه..
أنت صاحب المنة إن قبلت دعوة أحدهم ..
كم كانت فرحة أحد المواكب كبيرة عندما استجبنا لدعوته شرب الشاي عندهم.. كأنك ملَّكته شيئا كبيرا.. إنه موكب اهالي الكاظمية في ليالي الجمع.. وتدليلا على اعتزازه يقدم لوالدي ولي شارة ذهبية اللون تعلق على الصدر عليها كلمة ( يا حسين)..
في كل بقاع الدنيا.. يقدم الآخذ الشكر من المعطي.. أما في كربلاء.. فإن المعطي هو الذي يتشكر الآخذ..
ألا يعد هذا تغيرا في ناموس الطبيعة الذي يحكم علاقة بين البشر فيما بينهم؟
من الطبيعي أن ترى كميات كبيرة من الطعام لا تجد من يأكلها.. وقد يحرج أحدهم فيتناول صحنا ليأكل منه ملعقة ويتركه جانبا إذ لن يستطيع احد ان يلبي جميع الدعوات..
قال لي وائل.. وربما أنور .. وهما من مشرفي منتديات يا حسين الذين كانا مع أخي وابني في مسيرة المشاة من النجف الى كربلاء.. هل يمكن أن نقول : أن ما نشاهده هو نموذج مصغر عما سيحصل في دولة العدل الالهي عند ظهور الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ؟
قلت وكيف ذلك؟
قال: أليست الروايات تتحدث عن حالة الرخاء التي يعيشها الناس في تلك الايام إذ يقال لكل فرد خذ ما تحتاج اليه.. ولا يبق محتاج في ذاك الزمن..؟
أجبت: نعم هكذا هي حالة تلك الفترة، ولكن ما نراه اليوم يتعدى مسألة الغنى والفقر.. هو عطاء للعطاء .. لا لعنوان الحاجة .. ولا لعنوان الفقر.. بل لعنوان خاص اسمه .. حب الحسين.. ألست أنت زائر الحسين..
إذن خذ وأنت صاحب الفضل..
حكى لي وائل قائلا.. أثناء مسيرنا تورمت قدماي إذ لم أكن قد اعتدت على المسير المتواصل لفترة طويلة .. وتوقفنا عند إحدى المفارز الطبية على الطريق.. وكان الممرض او الطبيب يسحب بواسطة ابرة الماء المنتفخ تحت جلد القدم..
لقد رفضوا اعطاءنا اياه قائلين .. إننا نستعمله دواء للشفاء..
الاطباء يأخذون الماء من الاقدام المتورمة في مشيها لزيارة الحسين ويستعملونه دواء..
من يستطيع فك رموز تلك الاحجية التي لا يعرفها سوى من عشعش في قلوبهم حب الحسين..
حكى لي ابو حذيفة.. وهو صديق عراقي من كربلاء أقام سنيناً في بلدتنا يعمل في مهنته صياغة الذهب قبل ان يعود الى كربلاء قائلا: كانت لدينا رغبة انا وصديقي بأن نعمل على طريق كربلاء مصلحي أحذية للزوار .. فهل تعرف كيف بدأت هذه الخدمة للزوار منذ سنتين؟
أجبته كلا فقال: سأنقل لك شهادة الرادود المعروف " رؤوف عَلْوَش" الذي التقى قبل سنتين بشاب جالس على الطريق الى كربلاء يصلح أحذية الزوار.. قال له.. ما اراك ممن يمتهن هذه المهنة..أجابه : نعم ..ولكني ألزمت نفسي بأن أقوم بهذا العمل في كل عام بسبب ما حدث معي.. وتابع الشاب ساردا قصته للرادود:
كنت مشلولا على عربة ولا استطيع المشي، وقد وضعني اهلي في العربة على طريق المشاة كي اتبرك بغبار زوار الحسين..
وأنا في تلك الحالة كنت ارقب حالة المشاة، وقد لفت نظري ان أحذية بعضهم قد تقطعت وصارت بحاجة الى اصلاح فكان بعضهم يتركها ويسير حافيا لعدم تمكنه من اصلاحها..
قلت في نفسي وانا أشاهد مثل تلك الحالات.. يا ليتني أستطيع خدمة هؤلاء الزوار بإصلاح احذيتهم..
ومر من أمامي الزوار المشاة، وخف عددهم وكان هناك شخص يسير بمفرده آخر المشاة، ولم اعد ار بعده أحد.. وما أن وصل اليّ حتى أعطاني قنينة ماء وقال لي اشربها وتابع سيره..
وبعد ان غاب الجميع شربت الماء وأنا استعد كي ينقلني أهلي ، وإذ بي أشعر انني صرت في حالة اخرى .. لقد شعرت بقوة أذهبت عني ما أنا فيه..
قمت ومشيت .. وعندها التفت الى أنني تمنيت ان أخدم الزوار ، فألزمت نفسي بإصلاح احذيتهم في كل عام..
أليس اليقين الراسخ هو الذي جعل مثل هذا يقوم بمثل هذا العمل؟
أليست الحقيقة المتجسدة أمامهم عشقا للحسين تدفع مثل هؤلاء لخدمة زوار الحسين..
وماذا لو نقلت لكم قصة اخرى حصلت هذا العام؟
التقيت بأحد التجار الكسبة فحكى لي ما حصل معه ومع زوجته هذا العام..
إنه السيد جعفر السيد مجيد السيد نجم العوادي الموسوي..
من اهالي مدينة النجف الاشرف.. يملك بستانا في منطقة ما يسمى خان الربع.. وهي في ربع الطريق من النجف الى كربلاء.. ويبعد بستانه ومنزله عن الشارع العام ما يقرب من خمسة عشر كيلو مترا..
هناك على الشارع حسينية تحمل اسم الامام جعفر الصادق عليه السلام..
وهناك موكب يقدم الخدمة للزائرين المشاة يحمل اسم موكب السادة خدام الحسين..
حكى لي السيد جعفر.. أن زوجته العلوية ( بمصطلح العراقيين يطلق على من تنتسب الى أمير المؤمنين عليه السلام لقب العلوية) رغم ما بها من مرض تصر على المشاركة في خدمة زوار الحسين من خلال عجنها العجين الذي يتم ارساله الى فرن هناك ليخبر ويقدم الخبز الساخن للزوار..
ألحت زوجته كي تأتي معه للقيام بهذه المهمة، وضعت كمية الطحين المطلوبة، والماء الحار اللازم للعجين.. وإذ بها ترى أنه صار عجينا جاهزا دون أن تبذل اي جهد.. بعثته للخباز.. ثم عملت عجنة اخرى، وارسلتها مباشرة .. فتعجب الخباز من السرعة في انجاز العجين .. عندها قالت لهم احضروا أية كمية من الطحين فأنا على استعداد لعجنها بأقصى سرعة..
قد يستغرب البعض مثل هذه القصص والحكايا.. و لكن هل يستطيع احد ان ينكر كل تلك الحقائق التي تشهد بتغير ناموس الطبيعة في العلاقة بين البشر؟
إن كان ناموس الطبيعة يغير سلوك الانسان في علاقاته.. فكيف لا يتغير بامور تكوينية كما حصل مع ابراهيم الخليل؟
سأختم موضوعي الان بما لفت نظري قبيل مغادرتي كربلاء بعد ظهر يوم الاربعين..
كان على بعد عشرة امتار من الفندق الذي اقمت فيه ، سفير كربلاء..وفي الزقاق الموصل الى شارع السدرة حيث انعطف يمينا نحو مقام الحسين عليه السلام.. كان هناك فرن للخبز.. وكانت أكياس الطحين مكدسة عنده.. وكميات الخبز في الصباح والظهر والمساء تنتظر من يشتري ، وكنت أمر من أمام ذاك الفرن ست مرات في كل يوم اثناء ذهابي للحرم الشريف واثناء عودتي، وفي اكثر الاحيان كنت اشاهد شخصا او شخصين قدما الفرن بهدف شراء الخبز المكدس على الطاولة الخارجية..
واستمر هذا المشهد يتكرر امامي خمسة ايام الى ما بعد ظهر يوم الاربعين..
كنت قد صليت الظهر في مقام الحسين وودعته وتوجهت للفندق استعدادا للمغادرة.. وما أن دخلت الزقاق حتى شاهدت ازدحاما غير مألوف في ذاك المكان.. إذ أن أعدادا كبيرة من الناس متوقفة..
لا بد أن أمرا ما قد حدث في هذا الزقاق.. إذ رغم الاعداد الغفيرة المنتشرة في كل مكان لم يكن الزحام ليعيق حركة الناس كما أشاهدها الان هنا..
وكانت المفاجأة .. كل هؤلاء الناس يقفون امام فرن الخبز لشراء حاجتهم..
يا الهي .. ما الذي تغير؟
إن الناس قد بدأت في مغادرة كربلاء.. وكانت الجموع في الصباح وفي مساء امس اكثر بكثير ومع ذلك لم يكن احد ليقف امام الفرن .. فما الذي جرى ؟ وما الذي تغير؟
لقد انتهى وقت الزيارة.. فعادت الناس الى طبيعتها في علاقاتها..
انتهى الوقت الذي كان فيه اصحاب تلك المواكب يقدمون الطعام والشراب للقادمين، لقد انجز هؤلاء مهمتهم وحزموا امتعتهم وهم يهمون بالمغادرة..
فعاد الخباز ليبيع الخبز، والبقال ليبيع انواع الطعام والفاكهة وانتهى الوقت الذي تغيرت فيه نواميس الطبيعة..
هكذا بدت لي كربلاء بعد ظهر الاربعين والناس تودع الحسين الى منازلها.
وللحديث تتمة